"الفوسفاط في المناجم والمال في العواصم"، عبارة تتردد على ألسنة أهالي المظيلة، المدينة التونسية التي تتمدد فوق ثروة طبيعية تدر على خزينة تونس الملايير.
"أصوات مغاربية" انتقلت إلى مدينة المظيلة، إحدى مدن الحوض المنجمي، والواقعة في الجنوب الغربي لتونس.
العيش في الفراغ
مشهد مُنفر لأكياس البلاستيك العالقة بجنبات الطريق المعبدة ذات الاتجاه الواحد، والتي تقود إلى مدينة المظيلة. هذه هي الطريق الوحيدة التي تربط هذه المدينة ببقية العالم.
يتعين على الراغب في الوصول إلى مدينة المظيلة، الواقعة بمحافظة قفصة، في الجنوب الغربي لتونس، أن يتجشم عناء التنقل بين محطات كثيرة، قبل ولوجها، إذ لا تتوفر وسائل نقل عمومية أو خاصة تربط مركز تونس بهذه المنطقة مباشرة.
لا شيء يظهر في مداخل المدينة ويعطي الانطباع بأنها تنتج الثروة التونسية الأولى؛ الفوسفاط. طرق متهالكة وكثيرة المطبات، تشقّ مساحات زراعية، زحف عليها غبار أبيض.
في مداخل هذه المدينة النائمة بين جبال الفوسفاط، تنتصب بقايا خيام المعتصمين، وكتابات حائطية خطتها أيادٍ يائسة مطالبة بالاستفادة أيضا من ثروات المدينة. على جدران المظيلة دوَّن شباب شعارات تنادي بالتنمية والتشغيل ونبذ العنف والفتنة.
تضم المظيلة ثاني أكبر مناجم الفوسفاط في البلاد، فضلا عن مجمعين كيمياويين، ما زال أحدهما قيد الإنشاء. الاستفادة من هذه الثورة هو مطلب جل سكان المدينة الذين تحدثت إليهم "أصوات مغاربية".
"لا نرى من الفوسفاط شيئا سوى قاطرات وشاحنات تنقله إلى خارج المدينة، حيث تتم معالجته وتصديره"، يقول الناشط في المجتمع المدني، علي كريمي، مضيفا: "نصيبنا منه أمراض جلدية وتنفسية وأحلام مدمرة وشباب قُتل طموحه".
تصادف وجود "أصوات مغاربية" بالمظيلة انقطاع في شبكة الماء الصالح للشرب. أنباء انقطاع الماء عن المدينة بات، كما يقول كريمي، خبرا يتلقاه أهالي المظيلة يوميا.
ذكريات الاستعمار
على عكس الدول والمدن التي تعرضت للاستعمار الفرنسي، يتحسر أهل المظيلة على أيَّام الاستعمار، رغم إقرارهم بقساوتها.
"في زمن وجود الفرنسيين في المظيلة، كانت لدينا ستّة ملاعب لكرة التنس، وملاعب لكرة القدم واليد والطائرة والسلة والكرة الحديدية، وفضاءا تجاريا كبيرا لم تكن العاصمة تونس تتوفر عليه، وحيّا أوروبيا أنيقا"، يوضح الناشط الحقوقي، فتحي تيتاي.
يمضي فتحي في استرجاع شريط الذكريات قائلا: "في المظيلة، كانت لدينا، زمن الاستعمار، مكتبة عمومية وصالة للعروض السينمائية، وقاعة للأفراح أقام فيها كبار المغنين في تونس، على غرار علي الرياحي وصليحة، حفلات فنية.. صمدت هذه المنشآت إلى غاية بداية الثمانينات".
في نظر هذا الناشط الحقوقي، كانت المظيلة قبلة للعمّال من مختلف أرجاء تونس، وأيضا من الجزائر وليبيا وأوروبا، ما أعطى المدينة بعدا وطنيا ومغاربيا ودوليا، خلّف، في ذلك الوقت، ديناميكية اقتصادية كبرى، كما يقول.
ويؤكد فتحي أنه باستثناء مركز البريد الوحيد المتوفر في المدينة، فإن جميع الدوائر الحكومية الموجودة هي بنايات تعود إلى الحقبة الاستعمارية.
في المظيلة الآن، لم يبق من هذه المؤسسات التي عدَّها فتحي سوى ملعب لكرة القدم، يستغله نادي المدينة الذي ينشط في بطولة المستويات الدنيا، على الرغم من أنه يعد من أحد الأندية التونسية القديمة، إذ تأسس في سنة 1921.
في مدينة بحجم المظيلة، التي يزيد عدد سكانها عن 12 ألف نسمة، لا أثر لمرافق، على غرار البنوك ومصالح الحماية المدنية.
"قبل سنتين حدث انفجار في أحد أنابيب الحمض الكبريتي، أصيب على إثره 17 عاملا بحروق بليغة، وتوفي بعضهم، فيما تطَلَّب وصول الحماية المدنية وقتا طويلا لإخماد الحريق"، يردف فتحي.
رغم توفر المظيلة على مستشفى، إلا أن معظم الاختصاصات الطبية غير متوفرة به، حسب الفاعل المدني، علي كريمي، الذي يؤكد أن "طبيبا واحدا في اختصاص طب الأسنان جازف وفتح عيادة خاصة بالمدينة".
يعتقد جزء من مواطني المظيلة، بينهم فتحي تيتاي، أن الأنظمة السابقة عمدت إلى إضعاف المدينة من خلال إهمالها، بسبب ثقلها العمّالي والنقابي الذي شكّل خطرا عليها.
بقايا الخيام
قبل أيام، تعرض مركز الأمن بالمظيلة لحريق. وزارة الداخلية اتهمت، في بلاغ لها، أشخاصا من المدينة برشق أعوان الأمن بالحجارة وحرق المركز.
أما الناشط الحقوقي، عكرمي يحياوي، فيرجع ما وقع إلى ما وصفه بـ"استفزاز عناصر الأمن للشباب بعد هدم خيام المعتصمين المطالبين بحقهم في التشغيل". لذلك، يطالب يحياوي بفتح تحقيق في الحادثة.
على حافتي الطريق المعبدة الوحيدة التي تشق المدينة، تتناثر بقايا خيام، بدأ للتو شباب في إعادة ترميمها، استعدادا لجولة جديدة من الحراك الاجتماعي.
تتكون الخيام من أفرشة وأغطية مهترئة، تُنصب على أعمدة لتشكل ما يشبه الغرف الصغيرة. هنا يحتمي المعتصمون من قساوة الطقس الذي يميز منطقة الجنوب الغربي صيفا وشتاءً.
يقدّر عدد المعتصمين بنحو 400 شخص، تتراوح أعمارهم بين 20 و45 سنة، من بينهم نساء ورجال. بين هؤلاء المعتصمين أصحاب شهائد عليا، وفقا لما يؤكده الناطق باسم تنسيقية اعتصام المظيلة، صالح تليجاني، لـ"أصوات مغاربية".
ويضيف تليجاني: "اعتصامنا سلمي، والانفلاتات التي تحدث هي تصرّفات لا تعبّر عن المعتصمين الذين يدينون حادثة حرق مركز الأمن في الفترة الأخيرة".
حاليا، من بين مطالب المعتصمين، حسب الناطق باسم تنسيقيتهم، إيقاف التتبعات العدلية وإطلاق سراح الموقوفين لدى الجهات الأمنية، على خلفية التحركات الاجتماعية، فضلا عن تشغيل الشباب وتنمية المدينة.
من "حسنات" البطالة، كما يقول سكان المدينة، إنعاش المقاهي التي تتحول إلى محج للعاطلين عن العمل في معظم أنحاء البلاد. بيد أن هذه "الحسنة" لا تميز الوضع بالمظيلة، ما يؤكد سكانها، فحتى مقاهي المدينة تبدو خاوية.
يرجع منجي عكرمي، صاحب مقهى بالمدينة، هذا الأمر إلى البطالة التي قتلت الحركة التجارية بالمظيلة، وانعكست سلبا على محلات التجارة، في ظل أزمة اقتصادية شاملة.
المصدر: أصوات مغاربية