فتحي مارس، وقد بدت عليه علامات اليأس، في متجره الصغير بين مناضد تكدست عليها قمصان زاهية الألوان وسراويل جينز.
يقول فتحي إنه إذا استمرت الحرب في ليبيا فسيغلق المحل.
وتتردد هذه العبارة كثيرا في بنقردان التونسية. فعلى مدى عشرات السنين ظلت هذه البلدة الواقعة على مسافة 35 كيلومترا من الحدود مع ليبيا في جنوب تونس مستودعا للبضائع، سواء المهربة أو المستوردة.
غير أنه منذ الإطاحة بمعمر القذافي في 2011، قضى الصراع في ليبيا على حركة التجارة.
فخلال السنوات الثماني الماضية أغلق نحو 700 متجر أبوابه مع تضاؤل الإمدادات وارتفاع الأسعار بشدة وفق ما تقوله جمعية محلية للتجار.
ولا تزال هياكل الأكشاك تنتشر في شوارع المدينة وقد علا الصدأ الهياكل المعدنية الملتوية التي كانت تمتلئ في وقت من الأوقات بالبضائع المعروضة للبيع.
سوق ليبيا
منذ سنوات تتعرض "سوق ليبيا" في مدينة بنقردان لضغوط. والسوق عبارة عن شبكة من المتاجر المنخفضة تباع فيها الملابس وأجهزة التلفزيون والمايكروويف ولا يزال بعضها في صناديق عليها أسماء الشركات الليبية المستوردة.
وازدادت مشاكل السوق بعد أن شن خليفة حفتر، قائد قوات شرق ليبيا، هجوما في أوائل أبريل لانتزاع السيطرة على العاصمة طرابلس من أيدي جنود موالين للحكومة المعترف بها دوليا.
وقال تجار ومسؤولون في بنقردان إن القتال أوقف اتفاقا تجاريا بين تونس وليبيا كان من شأنه السماح للمسافرين باستيراد السلع الاستهلاكية بما قيمته 10 آلاف دينار ليبي (7140 دولارا) بما يلغي القيود والحظر الذي كانت تفرضه فيما سبق جماعات مسلحة ومسؤولون يمثلون الدولة الليبية على الواردات.
ففي الوقت الذي كان المسؤولون يعكفون فيه على وضع تفاصيل الاتفاق تفجرت حرب طرابلس الأمر الذي أدى إلى جمود المحادثات مع تركز الاهتمام في التجمعات السكانية التي تسيطر على طرق التجارة في غرب ليبيا على المعارك.
وقال رئيس مجلس المدينة، فتحي عبعاب، الذي شارك في المفاوضات التجارية، إن سكان بنقردان يعتمدون على ما يحدث على الطرف الآخر من الحدود، موضحا أنه تم التوصل إلى صفقة جديدة لكن الحرب تفجرت، ولم تنفذ الصفقة.
ويقول اتحاد محلي للعمال إن أغلب البالغين في البلدة التي يبلغ عدد سكانها 100 ألف نسمة ليس لديهم وظائف منتظمة، قائلا إن التوترات تتزايد مع توقف دخل التجارة.
موضة قديمة
على المستوى الإقليمي، يهدد تجدد الصراع في ليبيا بتعطيل إمدادات النفط وزيادة حركة الهجرة عبر البحر المتوسط إلى أوروبا وإفساد خطط الأمم المتحدة لإجراء انتخابات بما ينهي التنافس بين حكومتين متوازيتين في ليبيا.
وليست تونس الدولة الوحيدة التي تضررت اقتصاديا. فقد اعتادت مصر إرسال العمال إلى ليبيا، كما يقول رجال أعمال ليبيون إن تشاد والنيجر في الجنوب استفادتا في الماضي من حركة التجارة والتهريب.
واعتاد التجار التونسيون الاستفادة من الفجوة بين الأسعار المرتفعة في السوق المحلية حيث رفعت الحكومة الضرائب والأسعار المنخفضة في ليبيا التي لا تفرض فيها رسوم استيراد أو ضرائب على البضائع، كما أن أسعار الغذاء والوقود فيها مدعمة بشكل كبير.
غير أن الواردات السلعية إلى تونس تتراجع منذ أكثر من ثلاث سنوات مع سعي الفصائل المتنافسة في ليبيا لكي تكون لها اليد العليا.
وفرضت جماعات مسلحة تسيطر على الحدود وطرق التجارة رسوما من جانبها أو فرضت حظرا على الإمدادات.
وفي 2017، انخفض الدينار الليبي الذي يتعرض لضغوط من جراء الصراع الأمر الذي أدى لارتفاع الأسعار ودفع البنك المركزي لتخفيض سعر صرف العملة في المعاملات التجارية والخاصة في السنة التالية.
وقال متعاملون في بنقردان إن كلفة استيراد السلع، مثل السجاد التركي والسراويل المصنوعة في الصين، من ليبيا تضاعفت في السنوات الثلاث الماضية.
كما تأثرت شبكات تهريب البنزين بتشديد الرقابة على الحدود التونسية بهدف إبعاد المتطرفين وبحملة شنتها شركة النفط الوطنية الليبية لوقف التجارة غير المشروعة في الوقود.
وانخفضت الواردات برا من ليبيا إلى تونس لتصل إلى 3500 طن في أبريل هذا العام، مقابل 4188 طنا في أبريل 2010، وفق البيانات الجمركية التونسية.
ولا تشمل هذه الأرقام حجم السلع المهربة عبر الحدود.
وتوضح إحصاءات تونسية أن من المقاييس الأخرى لانخفاض حركة التجارة هبوط عدد المسافرين عبر الحدود إلى النصف تقريبا ليصل إلى 101978 مسافرا في أبريل 2019 مقارنة بالشهر نفسه في 2010.
وفي كثير من الأحيان يسافر تجار من تونس لمدة يوم واحد إلى ليبيا لإبرام الصفقات.
وفي بنقردان، حاول فتحي مارس، تاجر الملابس إحلال سلع من تركيا والصين ودول أخرى في شرق آسيا محل السلع الليبية، لكنها كانت أغلى ثمنا ولا تصلح لنموذج "سوق ليبيا".
وقال مارس إن آخر مرة حصل فيها على بضائع من ليبيا كانت قبل عامين، مشيرا إلى بعض سراويل "الجينز" على منضدة.
المصدر: وكالة رويترز للأنباء